الشعر والزعماء- علاقة عبر التاريخ تتجاوز الحروب
المؤلف: سلطان السعد القحطاني10.23.2025

بعيدًا عن ضجيج الحروب، وأزيز الرصاص، وصخب المتناحرين، يلوذ المرء بالشعر، متمنيًا أن يحفظ للروح الإنسانية نقاءها وبهجتها، في هذا العالم المائج بالاضطرابات، والمثير للسخط والأسى، الذي لا تنقصه موجات الصخب أو جموع المغالين.
وما إن تغوص في البحث والتفاصيل، حتى تدرك أن أصحاب السلطة، سواء كانوا ملوكًا متوجين أو قادة ذوي نفوذ، يمتلكون حسًا فنيًا رفيعًا، والشعر هو أبرز هذه الفنون لديهم، فلكل رئيس أو زعيم شاعره المفضل الذي يستلهم منه العبر، ويستمد الإلهام لكتاباته.
في لقاء تلفزيوني، أجاب الراحل غازي القصيبي عن سؤال حول أجمل ما في كونه وزيرًا مرافقًا لكبار ضيوف الدولة، فكان جوابه هو التعرف على زوار المملكة الكرام عن كثب، بعيدًا عن البروتوكولات الدبلوماسية، والتقاليد الرسمية المرهقة. إنهم بشر قبل كل شيء، مجردون من الأوسمة والتيجان والألقاب البراقة. وهكذا كانت تلك اللحظات نقطة التعارف الأولى عن قرب مع ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، التي تفوقت على جدتها فيكتوريا في جوانب عدة، وراقبت أفول نجم الإمبراطورية بمهارة ربان سفينة يحترم قوانين البحر وتقلبات الطقس، وكل ما يعجز عن السيطرة عليه.
كانت إليزابيث مغرمة بالشعر أيما شغف. يذكر غازي أنها كانت تتحدث عن الشعر، وخاصة شعر شيلر، بأسلوب رائع ومسهب. ورغم أن الملكة إليزابيث الثانية لم تعلن رسميًا عن شاعرها المفضل، إلا أنها أبدت إعجابها بأعمال العديد من الشعراء البريطانيين الكلاسيكيين، فكانت تقتبس من أشعار روبرت براونينغ، وتجلّ أعمال الأديب ويليام شكسبير، الذي يمثل جزءًا أصيلًا من التراث الثقافي البريطاني العريق.
وليست إليزابيث وحدها في هذا المضمار الشعري الآسر، فلكل رئيس شاعر وفكرة عبر دروب التاريخ الممتدة.
وتنطلق بنا الرحلة الرئاسية الشعرية بقصيدة كان نهرو يعشقها ويدونها بخط يده الأنيق، لشاعر مبدع تربطه علاقة وطيدة بكينيدي أيضاً، وأصبح بفضل كينيدي أول شاعر يُدعى لحضور حفل تنصيب رئاسي بقصائده الرائعة، وكان حينها في العقد الثامن من عمره المديد. إنه روبرت فروست، الساحر الآسر الذي حضر حفل التنصيب متهيئًا بقصيدته الموعودة، لكن سطوع الشمس حال دون رؤيته بوضوح، فارتجل قصيدة من الذاكرة وألقاها ببراعة. كان وقورًا مهيبًا على الرغم من تقدمه في السن، وتمكن من إتمام قصيدته رغم وهج الشمس الحارق!
ويا لها من مفارقة عجيبة أن يكون الشخص الذي ألقيت قصيدته في حفل تنصيب رئيس أمريكا الشاب والمحبوب، هو الشخص ذاته الذي استعان الجميع بقصيدته الشهيرة «الغابة» في تأبين الرئيس الشاب الراحل. تلك القصيدة المهيبة التي تتحدث عن الغروب، والذهاب في غابة لا يمكن أن تكون سوى الحياة نفسها.
كان اهتمام الرؤساء الأمريكيين بالشعر جزءًا لا يتجزأ من حياتهم الأدبية والسياسية، فاستخدموه للتعبير عن أسمى القيم الإنسانية وأعمق التأملات الفلسفية في مختلف المناسبات والفعاليات، وعلى مدى الخمسين عامًا الماضية، عبّر العديد من الرؤساء الأمريكيين عن تقديرهم لشعراء بعينهم، أو ألقوا الشعر في مناسبات خاصة، وكان لكل منهم ذوقه الأدبي المتميز.
فبينما كان جون كينيدي مفتونًا بشعراء مثل روبرت فروست، كان جيمي كارتر يكتب بعض الشعر ويحب الأديب الويلزي الكبير ديلان توماس. أما بيل كلينتون فقد عُرف بأنه كان من المعجبين بالشاعر لانغستون هيوز، أحد أبرز شعراء حركة هارلم العريقة، وأيضًا بالكاتبة مايا أنجيلو، التي ألقت قصيدة في حفل تنصيبه الأول عام 1993، وكذلك بالشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران.
وفي تاريخ العرب العاربة والمستعربة، نجد الكثير من العلاقات المتشابكة والمعقدة بين الشاعر والسلطان. لم يكن المتنبي يفهم زعماءه كما كانوا يفهمونه ظاهرًا وباطنًا، فلم يكن شاعرًا ينظم الشعر فحسب، بل كان قائدًا طموحًا يسعى إلى تاج على صهوة كلماته الخالدة؛ لذلك كان كافور الإخشيدي يداعبه بالوعود المعسولة والآمال العريضة، ولم ينل شيئًا من ذلك الحاكم الفذ الذي كان أعجوبة عصره بلا أدنى شك، تمامًا كما أن المتنبي كان قمة الشعر في كل العصور.
وحين شعر نزار قباني بالضجر والوحدة وهو سفير في الصين البعيدة، توسط لديه الصديق هيكل كي يبلغ رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك جمال عبدالناصر بأنه يتجرع مرارة الملل... الملل القاتل. فقال عبدالناصر كلمته المدوية: أعيدوا الشاعر الأموي إلى أندلسه. وهكذا أصبح قباني سفيرًا في إسبانيا، وتفجرت في الشعر العربي ينابيع وجداول من الإبداع المتدفق.
وتتساءل ما الجدوى من الشعر في عالم المادة والتكنولوجيا المتسارعة؟ يجيبك روبن ويليامز في فيلم Dead Poets Society، الذي يجسد فيه دور الأستاذ جون كيتنج، مقدمًا رؤيته الملهمة عن الشعر. يقول كيتنج لطلابه:
«نحن لا نقرأ ونكتب الشعر لأنه عمل نبيل فحسب، بل لأننا جزء لا يتجزأ من الجنس البشري، والجنس البشري بطبعه مليء بالشغف والعاطفة. الطب والهندسة والقانون والتجارة هي مهن عظيمة وضرورية لاستمرار الحياة، لكن الشعر والجمال والرومانسية والحب هي ما يجعلنا نتوق للبقاء على قيد الحياة».
بالفعل، هذا ما يمنحنا الأمل، ويجعلنا نحيا بتفاؤل في عالم يموج بالفوضى والاضطرابات، والمثير للغيظ والأسى!
وما إن تغوص في البحث والتفاصيل، حتى تدرك أن أصحاب السلطة، سواء كانوا ملوكًا متوجين أو قادة ذوي نفوذ، يمتلكون حسًا فنيًا رفيعًا، والشعر هو أبرز هذه الفنون لديهم، فلكل رئيس أو زعيم شاعره المفضل الذي يستلهم منه العبر، ويستمد الإلهام لكتاباته.
في لقاء تلفزيوني، أجاب الراحل غازي القصيبي عن سؤال حول أجمل ما في كونه وزيرًا مرافقًا لكبار ضيوف الدولة، فكان جوابه هو التعرف على زوار المملكة الكرام عن كثب، بعيدًا عن البروتوكولات الدبلوماسية، والتقاليد الرسمية المرهقة. إنهم بشر قبل كل شيء، مجردون من الأوسمة والتيجان والألقاب البراقة. وهكذا كانت تلك اللحظات نقطة التعارف الأولى عن قرب مع ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، التي تفوقت على جدتها فيكتوريا في جوانب عدة، وراقبت أفول نجم الإمبراطورية بمهارة ربان سفينة يحترم قوانين البحر وتقلبات الطقس، وكل ما يعجز عن السيطرة عليه.
كانت إليزابيث مغرمة بالشعر أيما شغف. يذكر غازي أنها كانت تتحدث عن الشعر، وخاصة شعر شيلر، بأسلوب رائع ومسهب. ورغم أن الملكة إليزابيث الثانية لم تعلن رسميًا عن شاعرها المفضل، إلا أنها أبدت إعجابها بأعمال العديد من الشعراء البريطانيين الكلاسيكيين، فكانت تقتبس من أشعار روبرت براونينغ، وتجلّ أعمال الأديب ويليام شكسبير، الذي يمثل جزءًا أصيلًا من التراث الثقافي البريطاني العريق.
وليست إليزابيث وحدها في هذا المضمار الشعري الآسر، فلكل رئيس شاعر وفكرة عبر دروب التاريخ الممتدة.
وتنطلق بنا الرحلة الرئاسية الشعرية بقصيدة كان نهرو يعشقها ويدونها بخط يده الأنيق، لشاعر مبدع تربطه علاقة وطيدة بكينيدي أيضاً، وأصبح بفضل كينيدي أول شاعر يُدعى لحضور حفل تنصيب رئاسي بقصائده الرائعة، وكان حينها في العقد الثامن من عمره المديد. إنه روبرت فروست، الساحر الآسر الذي حضر حفل التنصيب متهيئًا بقصيدته الموعودة، لكن سطوع الشمس حال دون رؤيته بوضوح، فارتجل قصيدة من الذاكرة وألقاها ببراعة. كان وقورًا مهيبًا على الرغم من تقدمه في السن، وتمكن من إتمام قصيدته رغم وهج الشمس الحارق!
ويا لها من مفارقة عجيبة أن يكون الشخص الذي ألقيت قصيدته في حفل تنصيب رئيس أمريكا الشاب والمحبوب، هو الشخص ذاته الذي استعان الجميع بقصيدته الشهيرة «الغابة» في تأبين الرئيس الشاب الراحل. تلك القصيدة المهيبة التي تتحدث عن الغروب، والذهاب في غابة لا يمكن أن تكون سوى الحياة نفسها.
كان اهتمام الرؤساء الأمريكيين بالشعر جزءًا لا يتجزأ من حياتهم الأدبية والسياسية، فاستخدموه للتعبير عن أسمى القيم الإنسانية وأعمق التأملات الفلسفية في مختلف المناسبات والفعاليات، وعلى مدى الخمسين عامًا الماضية، عبّر العديد من الرؤساء الأمريكيين عن تقديرهم لشعراء بعينهم، أو ألقوا الشعر في مناسبات خاصة، وكان لكل منهم ذوقه الأدبي المتميز.
فبينما كان جون كينيدي مفتونًا بشعراء مثل روبرت فروست، كان جيمي كارتر يكتب بعض الشعر ويحب الأديب الويلزي الكبير ديلان توماس. أما بيل كلينتون فقد عُرف بأنه كان من المعجبين بالشاعر لانغستون هيوز، أحد أبرز شعراء حركة هارلم العريقة، وأيضًا بالكاتبة مايا أنجيلو، التي ألقت قصيدة في حفل تنصيبه الأول عام 1993، وكذلك بالشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران.
وفي تاريخ العرب العاربة والمستعربة، نجد الكثير من العلاقات المتشابكة والمعقدة بين الشاعر والسلطان. لم يكن المتنبي يفهم زعماءه كما كانوا يفهمونه ظاهرًا وباطنًا، فلم يكن شاعرًا ينظم الشعر فحسب، بل كان قائدًا طموحًا يسعى إلى تاج على صهوة كلماته الخالدة؛ لذلك كان كافور الإخشيدي يداعبه بالوعود المعسولة والآمال العريضة، ولم ينل شيئًا من ذلك الحاكم الفذ الذي كان أعجوبة عصره بلا أدنى شك، تمامًا كما أن المتنبي كان قمة الشعر في كل العصور.
وحين شعر نزار قباني بالضجر والوحدة وهو سفير في الصين البعيدة، توسط لديه الصديق هيكل كي يبلغ رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك جمال عبدالناصر بأنه يتجرع مرارة الملل... الملل القاتل. فقال عبدالناصر كلمته المدوية: أعيدوا الشاعر الأموي إلى أندلسه. وهكذا أصبح قباني سفيرًا في إسبانيا، وتفجرت في الشعر العربي ينابيع وجداول من الإبداع المتدفق.
وتتساءل ما الجدوى من الشعر في عالم المادة والتكنولوجيا المتسارعة؟ يجيبك روبن ويليامز في فيلم Dead Poets Society، الذي يجسد فيه دور الأستاذ جون كيتنج، مقدمًا رؤيته الملهمة عن الشعر. يقول كيتنج لطلابه:
«نحن لا نقرأ ونكتب الشعر لأنه عمل نبيل فحسب، بل لأننا جزء لا يتجزأ من الجنس البشري، والجنس البشري بطبعه مليء بالشغف والعاطفة. الطب والهندسة والقانون والتجارة هي مهن عظيمة وضرورية لاستمرار الحياة، لكن الشعر والجمال والرومانسية والحب هي ما يجعلنا نتوق للبقاء على قيد الحياة».
بالفعل، هذا ما يمنحنا الأمل، ويجعلنا نحيا بتفاؤل في عالم يموج بالفوضى والاضطرابات، والمثير للغيظ والأسى!
